تأثير حرب غزة- تراجع مكانة إسرائيل وتحديات المصالح الأمريكية

المؤلف: مَاجد إبراهيم11.19.2025
تأثير حرب غزة- تراجع مكانة إسرائيل وتحديات المصالح الأمريكية

منذ الهزيمة المدوية التي مني بها الكيان الصهيوني في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، حظي بدعم أميركي استثنائي لم ينقطع حتى اللحظة. هذا الدعم تجسد في الإصرار على رفض أي وقف لإطلاق النار، والتمسك بحق الكيان المزعوم في الدفاع عن نفسه.

لكن، ومع الإخفاق المتزايد للكيان في تحقيق الأهداف المعلنة من حربه على غزة، وعلى رأسها القضاء على حركة حماس وتحرير الأسرى، ومع استمرار الاستهداف الوحشي للمدنيين ورفض الاحتلال للانصياع للرؤية الأميركية لمرحلة ما بعد الحرب، أصبحت مصالح واشنطن وعلاقاتها الدولية وإستراتيجيتها في المنطقة على المحك. هذا الوضع يستدعي التفكير مليًا في الأثمان الباهظة التي قد تدفعها واشنطن جراء انحيازها ودعمها المطلق للكيان الصهيوني، خاصة إذا تسبب ذلك في إلحاق الضرر بمصالحها الإستراتيجية. هذا الأمر قد يدفع واشنطن إلى اتخاذ خطوات للضغط على الموقف الإسرائيلي، مما قد يؤثر في المدى القريب على طبيعة العلاقة التحالفية بين الطرفين، أو حتى على المكانة الإستراتيجية للكيان في المنطقة.

تزعزع المكانة والهزيمة

لطالما اعتبر الكيان الصهيوني حصنًا متقدمًا للولايات المتحدة والغرب في منطقتنا، وحظي بدعم ورعاية أميركية خاصة للاضطلاع بدور ضابط الإيقاع في المنطقة وفقًا للمصالح الأميركية. سعت واشنطن جاهدة لدمج الكيان في المنطقة العربية من خلال اتفاقات السلام والتطبيع مع الدول العربية، بهدف طي صفحة القضية الفلسطينية وتكريس الحل الإسرائيلي القائم على ضم الأراضي الفلسطينية، والتوسع الاستيطاني، وتهويد القدس، ومنع قيام دولة فلسطينية.

عندما قررت الولايات المتحدة توجيه تركيزها نحو الصين وروسيا والانسحاب التدريجي من المنطقة، رأت أن الكيان الصهيوني هو الأجدر برعاية مصالحها في المنطقة. لذلك، عملت على إدماجه في المنطقة ليس فقط من خلال اتفاقيات التطبيع المسماة اتفاقيات أبراهام، بل أيضًا من خلال إنشاء آلية لتحالف أمني مع دول المنطقة. تجلى ذلك في اجتماع العقبة الذي شاركت فيه دول التطبيع، وكان يهدف إلى ترسيخ اعتماد هذه الدول على الحماية الإسرائيلية من التهديدات الخارجية، وعلى رأسها إيران، مما يعني تكريس الاحتلال كدولة مركزية وقائدة في المنطقة، وهذا يضمن حماية المصالح الأميركية في المنطقة من أي تهديد، ويشكل حصنًا من إمكانات الاختراق الروسي والصيني لها.

سعت واشنطن من خلال جولة بلينكن إلى إنقاذ الكيان من مأزقه، ومحاولة احتواء التدهور في شعبية بايدن لصالح ترامب في الانتخابات الأميركية المقبلة، بالإضافة إلى التذمر داخل الإدارة الأميركية بسبب الدعم اللامحدود الذي قدمه بايدن للكيان، وبداية تفكك التحالف الغربي الداعم للكيان.

لقد شكل "طوفان الأقصى" تهديدًا وجوديًا للكيان، وألحق أضرارًا جسيمة باستقراره، لأنه زعزع الركائز العسكرية والأمنية التي كان يعتمد عليها، وعلى رأسها الاعتقاد بأن جيشه لا يقهر، كما حطم نظرية الردع الأمني التي تفاخرت بها حكوماته المتعاقبة.

تضررت مكانة الكيان الإستراتيجية في المنطقة بعد أن أصبح عاجزًا عن حماية نفسه، فضلًا عن حماية غيره، مما يشكل تهديدًا حقيقيًا للمصالح الأميركية.

لذلك، سارعت الولايات المتحدة والغرب ليس لنجدته فحسب، بل أيضًا لحماية المصالح الأميركية والغربية، لأن انهيار هذا الكيان وتلاشي هيبته يشكل خطرًا على هذه المصالح. لذا، كان تأكيد واشنطن دائمًا على رفض وقف إطلاق النار حتى يتمكن الاحتلال من استعادة مكانته المتزعزعة.

كما شاركت إدارة بايدن بشكل فعال في إدارة الحرب على غزة، ووافقت على أهداف الخطة العسكرية للاحتلال المتمثلة في القضاء على حماس واستعادة الأسرى، ودعمته بكل الوسائل العسكرية الممكنة، ووفرت له الغطاء السياسي في مجلس الأمن، على الرغم من أنه كان واضحًا منذ البداية أنه من المستحيل هزيمة فكرة متجذرة وتنظيم شعبي له امتدادات في جميع أنحاء العالم.

لكن الأمور لم تسر كما تشتهي سفينة إسرائيل والولايات المتحدة، فقد واجه جيش الاحتلال مقاومة باسلة وعنيفة أعاقت تقدمه وعطلت تحقيق أهدافه السياسية.

أكد تقرير سري للاستخبارات الأميركية صدر مؤخرًا، وكشفت عنه صحيفة وول ستريت جورنال، أن حركة حماس لا تزال تمتلك مخزونًا من الذخائر يكفي لضرب إسرائيل لأشهر قادمة، وأن الهدف المتمثل في تدمير الحركة لم يتحقق، على الرغم من الحملة الجوية والبرية الإسرائيلية المكثفة في قطاع غزة.

وزعم التقرير أيضًا أن جيش الاحتلال تمكن من القضاء على ما بين 20% إلى 30% من مقاتلي حركة حماس، معتبرًا أن هذه الحصيلة (على الرغم من أنها قد تكون مبالغًا فيها وتستند إلى مزاعم جيش الاحتلال) "لا ترقى حتى الآن إلى هدف إسرائيل المتمثل في تدمير الحركة"، وتظهر "قدرة حماس على الصمود بعد أشهر من الحرب التي دمرت مساحات واسعة من القطاع".

وعلى الرغم من أن الإدارة الأميركية تتجنب الحديث علنًا عن مواقفها غير المتوافقة مع الكيان حتى لا يظهر أنها تخذله في وقت الحرب، كما تتحاشى الخوض في تقييماتها لمجريات الحرب، فإن مسؤوليها يتحدثون للصحف الأميركية شريطة عدم الكشف عن هوياتهم.

من بين هذه التقييمات، ما أوردته صحيفة نيويورك تايمز من أن الإدارة الأميركية باتت على قناعة بأن إسرائيل في مأزق إستراتيجي، وأن الكيان أبعد ما يكون عن إلحاق الهزيمة بحماس، مشيرة إلى أن الجزء الذي سيطرت عليه قوات الاحتلال في قطاع غزة أقل بكثير مما تصورته خطط المعركة، والتي تضمنت السيطرة على غزة وخان يونس ورفح بحلول أواخر ديسمبر/كانون الأول.

تفاقم الخلافات

في ضوء هذه النتائج، لم يكن أمام الإدارة الأميركية من بد سوى التدخل لمنع تحول المأزق الإستراتيجي للاحتلال إلى هزيمة ثانية مماثلة لهزيمة 7 أكتوبر/ تشرين الأول. لذلك، جاءت جولة وزير الخارجية بلينكن التي بدأها بدول المنطقة قبل أن يزور الكيان، ثم تبعتها مكالمة هاتفية مطولة بين بايدن ونتنياهو، كشفت عن عمق الخلافات بين الطرفين.

سعت واشنطن من خلال هذا التحرك إلى انتشال الكيان من ورطته، ومحاولة تدارك التدهور في شعبية بايدن لصالح ترامب في الانتخابات الأميركية المقبلة، فضلًا عن التململ داخل الإدارة الأميركية بسبب الدعم اللامحدود الذي قدمه بايدن للكيان، وبداية تفكك التحالف الغربي الداعم للكيان، ومطالبة عدد من دوله بوقف إطلاق النار على عكس رغبة واشنطن!

واجه التحرك الأميركي عقبة كبيرة بسبب موقف نتنياهو المتشبث بالسلطة إلى ما لا نهاية، وحكومته التي يسيطر عليها المتطرفان سموتريتش وبن غفير اللذان يهددان باستمرار بإسقاط الحكومة إذا قرر نتنياهو وقف الحرب أو القبول بحكم السلطة الفلسطينية للقطاع، أو القبول بالدولة الفلسطينية الشكلية والمنزوعة السلاح التي يطالب بها بايدن.

يشار إلى أن هذا هو التصور الأميركي لما بعد الحرب، والذي يقول بايدن إنه نجح في إقناع بعض الدول العربية به، ويقوم على القبول العربي بمشروع الدولة المفرغة من مضمونها، مقابل إعطاء السلطة الفلسطينية دورًا ما في مستقبل قطاع غزة.

يشكل هذا التصور حجر الزاوية في الإستراتيجية الأميركية لإنهاء الحرب، بما يحافظ على مصالح واشنطن في المنطقة، ويعيد تمركز الكيان فيها، ويمنع تعرضه لهزيمة قاسية ستنعكس حتمًا على المصالح الأميركية سلبًا.

ويشار هنا إلى أن هذا التحرك يستند إلى فرضية إضعاف أو إنهاء حماس، وهو سيناريو لا يبدو أنه يملك فرصة للنجاح في ضوء المعطيات الحالية!

غير أن ارتباط نتنياهو بالمتطرفين في حكومته، وعدم رغبته في إنهاء الحرب خوفًا على نفسه من السقوط والتعرض للمحاكمة بسبب تهم الفساد، بالإضافة إلى فشله الذريع في 7 أكتوبر/ تشرين الأول، كل ذلك جعله يتباطأ في الدخول في المرحلة الثالثة التي طلبتها إدارة بايدن، والتي تتضمن تخفيف استهداف المدنيين والتركيز على مقاتلي المقاومة، ويرفض الدولة المستقلة، ويصر على رفض أي دور للسلطة الفلسطينية (بعد تأهيلها أميركيًا) في غزة، على اعتبار أن ذلك سيعزز الطموحات الفلسطينية بالدولة المستقلة، حتى ولو كانت هذه لا تتجاوز وضع الحكم الذاتي الذي تعيشه سلطة أوسلو!

بعد مكالمة هاتفية بين نتنياهو وبايدن، خرج الأخير ليقول إن إقامة الدولة الفلسطينية في ظل وجود نتنياهو ليست مستحيلة، وإنه معجب بفكرة الدولة الفلسطينية منزوعة السلاح، ليخرج بعد ذلك نتنياهو ووزراؤه برفض هذه الفكرة، الأمر الذي شكل صفعة للرئيس الأميركي، وأعاد إلى الأذهان مطالبته السابقة لنتنياهو بتشكيل حكومة يستثني منها سموتريتش وبن غفير.

نقلت شبكة "سي إن إن" عن مسؤول في إدارة بايدن قوله: "في مرحلة ما، سيتعين على نتنياهو الاختيار بين الحكم بطريقة ترضي بن غفير وسموتريتش، وبين الحكم بطريقة ترضي الرئيس بايدن والولايات المتحدة".

كتب الصحفي ألون بنكاس في صحيفة هآرتس معلقًا على مطالبة بايدن لنتنياهو بتغيير حكومته، قائلًا: "إن ما قصده بايدن في تصريحاته المتعلقة بنتنياهو لا يتلخص فيما قاله بالضبط، وهو بحد ذاته خطير، لكن الأخطر يكمن فيما لم يقُله".

وأوضح أن "تصريحات بايدن مهمة، بحد ذاتها، لأنها علنية. لقد قال بايدن كلامًا مشابهًا في أحداث داخلية، أو سياسية، في الأسابيع الأخيرة. بايدن ليس فقط لا يوافق على أي كلمة يقولها نتنياهو، بل هو أيضًا لا يصدق أي كلمة يقولها. هو مقتنع بأن نتنياهو يسعى لمواجهة، ومن المهم له أن يبدو مثل رامبو الذي يقف في مواجهة ضغوط أميركية، وبايدن مقتنع بأن نتنياهو يخوض حملة سياسية، ويحاول إعادة كتابة التاريخ".

تضارب المصالح وموقع الاحتلال

مع رفض نتنياهو المتواصل لاقتراح إقامة دولة فلسطينية، والتخوف من طموحاته الشخصية التي يجر فيها الإدارة الأميركية إلى حرب إقليمية، بدأت إدارة بايدن تتطلع إلى ما هو أبعد من نتنياهو في مسعى لتحقيق الأهداف الأميركية في المنطقة، وذلك حسب ما قاله ثلاثة أميركيين كبار لشبكة "إن بي سي إن"، الذين أكدوا أن "نتنياهو لن يبقى هناك إلى الأبد".

صحيح أن بايدن رفض حتى الآن مقترحات في مجلس الشيوخ الأميركي لفرض شروط على المساعدات التي تقدمها الولايات المتحدة لإسرائيل، لكن هذا الموقف قد يشهد تحولًا في المستقبل بهدف ممارسة ضغوط على نتنياهو لإسقاطه من خلال تحركات داخلية، سواء داخل حزب الليكود نفسه أو من خلال المعارضة.

إن تحدي نتنياهو للإدارة الأميركية، واستعداد هذه الإدارة للتعامل معه بأساليب ضغط غير مسبوقة، مثل فرض قيود على المساعدات العسكرية أو حتى إعادة النظر في حق النقض الذي تقدمه لمنع إدانة الكيان في مجلس الأمن، بسبب موقفه الذي يضر بالمصالح الأميركية في المنطقة، يشير إلى أن ذلك قد يكون له تداعيات بعيدة المدى على السياسة الأميركية تجاه الكيان الذي زج بها في المنطقة على غير رغبتها، بسبب ضعفه وعجزه، ثم وقوفه ضد رؤيتها السياسية في المنطقة.

لا شك أن مصلحة الولايات المتحدة الإستراتيجية تكمن في وجود كيان صهيوني قوي ومتماسك في مواجهة دول عربية ضعيفة ومفككة ومرتهنة للولايات المتحدة، لكن هذا الكيان تعرض لاهتزاز عنيف بعد 7 أكتوبر/ تشرين الأول، وها هو يعمل ضد مصالحها الإستراتيجية. وحتى إذا تغيرت هذه الحكومة، فإن التيار المتشدد سيستمر في الهيمنة على المجتمع الصهيوني، بما في ذلك الرفض القاطع لحل الدولتين الذي تسعى إليه واشنطن.

كما أن عملية التصدع ستستمر في الكيان عندما يضطر للاستسلام لصفقة تبادل الأسرى والانسحاب من قطاع غزة دون أن يتمكن من إخضاع المقاومة، مما يضعف مكانته الإستراتيجية أكثر فأكثر.

قد يشكل ذلك فرصة للأنظمة العربية للتحرر من قيود التبعية المطلقة للولايات المتحدة، والنظر على نطاق أوسع لمصالحها مع قوى كبرى مثل روسيا والصين، مما يدفع الإدارة الأميركية إلى إعادة النظر في موقفها المنحاز كليًا للكيان، ودفعه لتقديم تنازلات للحفاظ على مكانته في المنطقة.

ربما من هذه النقطة، والتي قد تتطلب تغييرات سياسية في هذه الدول، ستبدأ المكانة الإستراتيجية للكيان في التدهور تدريجيًا، وربما ليس من المستبعد، إذا ضعفت مكانة الكيان، أن تلجأ الولايات المتحدة إلى موازنة مصالحها في المنطقة، وصياغة موقف متوازن من قضايا المنطقة.

قد لا تصل الأمور إلى تحول الكيان إلى عبء إستراتيجي على الولايات المتحدة، وذلك بسبب نفوذ اللوبي اليهودي والنظرة الغربية التي تتخوف من نهضة المنطقة، لكن واشنطن بكل تأكيد ستنظر إلى مصالحها الإستراتيجية في المقام الأول.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة